قد تكون النتيجة قاسية
وقد تكون الخلاصة صعبة
لكنها في كل الأحوال هي الحقيقة كما أعتقد وكما لم أكن أريد أن أعرفها أو أصل إليها أو أقولها أبدا!
نعم لم يعد التغيير في مصر ممكنا عن طريق صناديق الانتخابات.
ياليتنا ننسي كلنا هذا الحلم بأن تتغير مصر عبر انتخابات حرة نزيهة تنتهي فيها نتائج صناديق الاقتراع إلي رحيل الحزب المحتكر المزور،
كان هذا هدفا فحولوه حلما ثم جاءت الطريقة الصفيقة والفاجرة في إخراج التزوير لانتخابات الشوري الأخيرة لتؤكد أنه حتي هذا الحلم
بات كابوسا
لن تسمح قوي الشر والاستبداد بأي انتخابات حرة في مصر من هنا ورايح كما لم تسمح بها أبدا!
لم تشهد مصر خلال ثلاثينية عمر رئاسة مبارك حتي الآن
أي انتخابات حرة
ولن تشهد
ولن تري مصر نور نزاهة الانتخابات في عصر الرئيس مبارك
فيبدو أنه ورجاله يشعرون بذعر علي النظام وبقاء الحزب الحاكم حاكما متحكما لو جرت انتخابات حرة وتحول هذا الذعر إلي طريقة مفزعة في التزوير لم تعد تطيق أي خرم من الحرية في الانتخابات،
هذا الإصرار الشرس علي تزوير الانتخابات يعكس طبعا فشلا كما يبين لنا عدم ثقة هائلة في إمكانية حصول هؤلاء علي أصوات الشعب حين تتحرر من أغلال التزوير والتزييف!
إذن ما العمل؟
بالقطع اللجوء للعنف مرفوض ومنبوذ وهو بمثابة العجز والإرهاب!
وبالحتم فإن مشاركة الأحزاب التي تسمي نفسها معارضة وهي قد خلعت أي رداء يستر عورتها وصارت شخشيخة في يد الحزب الحاكم يهزها لتنويم الشعب ويتركها عضاضة في فم الجماهير حتي تتلهي بها وفيها ورغم محاولات التجميل الخائبة والباهتة والزائفة لحزب أو آخر فإنه يصب في النهاية في الخدمة الراكعة للحزب الوطني والحكم.
ومرة أخري ما الحل؟
من أين يأتي التغيير؟
مشكلة التغيير في مصر أنه بلا صاحب!
صحيح أن التغيير فكرة وهدف وطموح ورسالة للكثيرين، يبشر بها ويدعو لها ويناضل من أجلها كثيرون، لكن ليست هناك شريحة تتبني التغيير وتقوده وتسوقه للأمام وللفعل وللإقدام!
لا تغيير في أي مكان أو زمان إلا بشريحة متجانسة ومتصالحة ومتوافقة وذات مصلحة في التغيير.
قبل يوليو 1952 كانت مصر كلها تسعي للتغيير، التغيير الذي يعني استقلالاً حقيقياً عن الإنجليز وحياة ديمقراطية كاملة ونزيهة وملكية دستورية يحكم فيها الملك بالدستور وليس بالهوي والمزاج.
لكن لم تنجح محاولة التغيير رغم شعبية الفكرة ووحدة الهدف إلا من خلال شريحة ذات مصلحة في التغيير
في الأول كان العمود الفقري للسعي نحو التغيير هو قوي الطلبة والعمال، خاضوا نضالا مشرفا ومثابرا وقد توفرت فيهم كل ملامح الشريحة القائدة التي يمكنها أن تتبني التغيير وتسعي إليه وتنفذه فعلاً
لكن حيث صغر سن الطلبة من جهة
ثم فقر العمال الواسع والعميق
مع غياب شكل التنظيم النقابي انتهي بهاتين الشريحتين إلي فقدان البوصلة وتشتت الجهد وتبديد الناتج
ومع اتساع فكرة التغيير والسعي للاستقلال ووجود عشرات من الجماعات الصغيرة والسرية المكونة من حلقات مثقفين ويساريين إلا أنها لم تتوفر فيها وحدة النسيج ولا متانة التجانس الذي توفر في جماعة واحدة كانت هي شريحة التغيير بامتياز ومن ثم نجحت فيه - في لحظة وبقوة
كانت شريحة الضباط
التجانس كان حقيقياً في متنوعات السن والثقافة والوظيفة ولم يكن داخلهم تباينات مختلفة من خارج الوظيفة الواحدة ولا استضافوا في الشريحة تلك أيا من الشرائح الأخري
فانتهي الأمر إلي نجاحهم!
مصر الآن تفتقد شريحة التغيير تلك التي تحمل علي كتفها عاتق القيادة، لا توجد جماعة ذات تجانس ثقافي وطبقي ومصلحي تقرر أن مصر لا ينصلح حالها إلا بالتغيير فتقود هي هذه الحركة نحو الأمام بقيادة فاعلة ومنتجة ومؤثرة ومنظمة وجماعية وباعتبار عملية التغيير وإنجاحها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها.
ما هو موجود لدينا في مصر شريحة الدعوة والتبشير والتنوير من أجل التغيير!
طرحت الفكرة في عتمة الاستسلام للأمر الواقع وأذاعت الدعوة بين قطاعات المجتمع وتتواصل في دفعها للعقل المصري كي يعتقد جازما بأن التغيير ضرورة حتمية كاشفة فساد واستبداد الواقع الراهن!
جماعة أو شريحة التبشير والدعوة متناثرة جدا ومفتتة للغاية وهو سر انقساماتها وتعدد روسها وتكاثر جهاتها وجمعياتها
ليه؟
لأنها شريحة واسعة تجمعها الفكرة ولا تجمعها الثقافة ولا الطبقة ولا التجانس العمري ولا المصلحة الاقتصادية الواحدة!
أين هي شريحة التبشير أو شريحة البدء كما يطلق عليها الباحث ياسر الغرباوي في دراسته (دراسة صغيرة ومتعجلة جدا بعنوان حركات التغيير والحراك الجماهيري وقد نبتت أفكار هذا المقال بعد قراءتي لتلك الدراسة )؟.
إذن شريحة التبشير أو البدء تتميز بالصدق والإبداع والشجاعة في تصوري واعتقادي كما ألمس وأري في كل من يحمل فوق همه هموم الدعوة للتغيير في مصر من مثقفين وطنيين وأساتذة جامعيين ونشطاء حقوق إنسان وشباب وصحفيين، وهي بالفعل شريحة التبشير التي بدأت مع بدايات عام 2005 تعلن عن شعارها لا للتمديد ولا للتوريث، لكن لأن هذه الشريحة متباينة العقيدة السياسية ومختلفة في المنابع والمصبات الثقافية والفكرية ثم هي خليط واسع ومتعدد جدا من الشرائح تجمع مليونيرات وفقراء، وأساتذة وطلبة، ووزراء سابقين ومعتقلين أسبق، فإنها لا ترسو علي حال وتعوم علي خلافات داخلية تسمح مثلا لشباب الفيس بوك أن ينقسم إلي مجموعات تشهد تناحرات معلنة وخفية، كما نري جمعية التغيير تتباين وتتفرق، ثم مشاهد حركة كفاية وهي تعاني تحت وطأة النحر والحفر لطاقات رجالها، والانسحابات اليائسة الكثيرة من الساحة أو الاندفاعات الأكثر يأسا إلي الساحة، كلها تصب إلي حقيقة واحدة أن هذه الجماعات تصلح لتكوين شريحة تنوير ودعوة وتبشير بالتغيير وسعي بالكلمة والفكرة والموقف والوقفة لهذا الهدف ولكنها لن تتعدي حالة الدعوة، ولن تصل إلي أبعد من مرحلة الكلمة، وبالمناسبة هذا شيء مهم جدا وأساسي ومركزي لكنه لا يكمل مشوار التغيير أبدا ولم نعرف علي مدار تاريخنا أو تاريخ المحيط الإنساني أي شريحة بدأت بالدعوة للتغيير ونجحت هي في تحقيقه وإنجازه!
لابد من الانتقال للمرحلة الثانية وهي الشريحة القائدة
والغريب أن مصر كانت قد أوشكت علي العثور علي شريحة التغيير القائدة والتي توفرت فيها أغلب السمات والصفات لإحداث الفارق وقيادة عملية التغيير الديمقراطي بأدوات الضغط الشعبي!
كان هذا حين تحرك القضاة الإصلاحيون
هذه هي فرصة مصر التاريخية التي ضاعت فعلا وكان يمكن لها أن تغير شكل مصر بل شكل المنطقة العربية كلها فقد كانت
مميزاتها:
1- التجانس الثقافي والفكري والعمري والترابط في المصلحة والحاجة للتغيير.
2- المصداقية لدي الجماهير والاحترام الخالص لرموز الشريحة داخل المجتمع.
3- الترتيب الزمني لظهور هذه الشريحة وقيادتها فقد جاءت بعد انفجار شريحة البدء أو التبشير في العمل النضالي من أجل الدعوة لتغيير الواقع السياسي الحاكم فبدت نتيجة مدهشة وتلبية قدرية أشبه بالمعجزة في التعاقب والسرعة في الاستجابة.
كيف فشلت هذه الشريحة في قيادة عملية التغيير؟
1- الطبيعة والتركيبة المحافظة لهذه الشريحة جعلتها تحجم عن المواصلة أو الوصول لحدود مصادمة مع جهاز الدولة.
2- البؤر الداخلية التي نحرت التماسك وهي بؤر قادمة من منطقة الولاء الحكومي والأمني.
3- الطبيعة الديمقراطية لهذه الشريحة التي ما كانت تسمح باتخاذ قرارات ذات بعد درامي عميق دون تصويت واسع يعطل الحركة الممتدة والحافرة لأعماق أبعد.
4- كونها قائمة علي موظفي دولة ومن ثم مساحة التحرر في التحرك مربوطة بوظائف ممسوكة بخيوط الدولة.
الحاصل إذن أنه لا تغيير قد ينجح في مصر دون هذه الشريحة القائدة وأرجوك لا تقل لي الإخوان المسلمين فهذه جماعة حلقية ذات أجندة تخصها وأهداف داخلها وهي أقرب لتنظيم أو حزب سياسي يعمل لخدمة نفسه وليست شريحة تغيير ذات تجانس ثقافي وفكري وطبقي ومصلحي مثل القضاة أو المحامين مثلا أو المدرسين أو الأطباء أو العمال فهؤلاء يمكنهم أن يتحولوا إلي شريحة قائدة مثلما رجال الدين أو ما أطلق عليه لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية أو عمال الشحن والميناء في بولندا أو الفلاحين في الصين أو الطلبة في صربيا أو القضاة في إيطاليا أو حركة الشاي في أمريكا!
ليس معني شريحة التغيير القائدة أن بقية الشرائح سوف تتفرج ولكنها ستشارك قطعا كعوامل داعمة ومساعدة ومؤيدة وفاعلة ثم مع الانتقال من مرحلة الشريحة إلي حالة المجتمع الناهض للتغيير فكل الشرائح سوف تتسلم راياتها في التغيير:
إذن مصر علي حالتها تلك فلا تنتظروا شيئاً
حتي لو ظهر مرشح كبير مثل الدكتور محمد البرادعي فإنه لن يحقق شيئا لو لم يكن معه ولديه هذه الشريحة القائدة،
تقوده أو يقودها!
أما لو ظهرت شريحة التغيير القائدة فبعدها سيكون التغيير مسألة وقت بعدما كان مسألة مبدأ!