منذ عدة سنوات بادرت البُلدان الصناعية الكُبرى بإنشاء «منتدى المستقبل» (forum for the future)، ليكون مجالاً للحوار والتعاون بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدنى فى بُلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد تزامنت بداية تلك المُبادرة بإدارة الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش (Gorge W، Bush)، والذى حرصت إدارته على المُشاركة الفاعلة فى كل دورات مُنتدى المستقبل منذ عام ٢٠٠٤،
ومع الإدارة الجديدة للرئيس الأمريكى باراك أوباما كان هناك شك، عمما إذا كانت الولايات المتحدة ستستمر فى حماسها للمشاركة فى منتدى المستقبل لبُلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولكن هذا الشك تبدّد حينما حرصت وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون على حضور الدورة السادسة للمنتدى فى المغرب، وهو ما يوحى بأن سياسات البُلدان الديمقراطية الكُبرى تنطوى على قدر ملموس من الاستمرارية، بصرف النظر عن الحزب الحاكم فى هذه البُلدان، وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على البُلدان الصناعية الكُبرى،
ومنذ بداية منتدى المستقبل (٢٠٠٤)، كانت كل دورة يتولى تنظيمها أحد بُلدان المنطقة بالمشاركة مع أحد بُلدان مجموعة البُلدان الثمانية الصناعية الكُبرى، وقد تولت تنظيم الدورة السابعة هذا العام كل من دولة قطر (عن المنطقة) وكندا (عن البُلدان الصناعية)، وتنطوى كل دورة على مجموعة من ورش العمل التمهيدية، وضمن ذلك ورشتان عقدتا فى قطر.. كانت واحدة منها يومى ٢٤ و٢٥ أبريل ٢٠١٠، والثانية يومى ٢٩ و٣٠ مايو ٢٠١٠،
ورغم دعوتى لكل دورات منتدى المستقبل منذ البداية، كأحد نشطاء المجتمع المدنى، فإننى لا أٌلبى الدعوة كل مرة، وذلك لارتباطات أخرى، وقد انتهز بعض المُغرضين من عُملاء الأجهزة تفسيراً اعتذارياً عن لقاء منتدى المستقبل فى شهر أبريل بأنه بسبب قطيعة بين دولة قطر وكاتب هذه السطور (سعد الدين إبراهيم)، وهو ما نشرته صحيفة مصرية (اليوم السابع ١٦/٥/٢٠١٠).
وفى زيارتها لواشنطن فى طريقها إلى اجتماع حوار الحضارات فى ريو دى جانيرو، حرصت سمو الشيخة موزة بنت ناصر المُسند، قرينة حاكم دولة قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثان، على إعادة ترحيب بلادها بى فى كل وقت، وأكدت لسموها بدورى عن عدم تصديقى وعدم اكتراثى بما تفعله الأجهزة الاستخبارية من إشاعات مُغرضة، وأن الرد العملى على هذه الإشاعة الأخيرة هو تلبيتى لدعوة منتدى المستقبل يومى ٢٩ و٣٠ مايو ٢٠١٠، وقد عبّرت الشيخة موزة عن ارتياحها العميق لزيارتى المُرتقبة للدوحة، على أن يُستكمل الحديث بعد عودتها من منتدى حوار الحضارات فى البرازيل،
أما ورشة عمل منتدى المستقبل فى الدوحة، فقد كان موضوعها هو «الحل السلمى للنزاعات والانتقال للديمقراطية»،
وقد استأثر مفهوم «العدالة الانتقالية» بجزء كبير من النقاش، نظراً لحداثته نسبياً فى السياق العربى والشرق أوسطى، ويعنى المفهوم الكيفية التى يتم بها إقرار «العدالة الإنصافية» فى أعقاب فترات الصراعات المُمتدة، وخاصة المُسلحة منها، وفى هذا الصدد، قيل إنه ما لم يتم تفعيل آليات مثل إنصاف ضحايا الصراعات المُسلحة، فقد تعود مُجدداً للانفجار،
وبداية لا بد من إقرار أن أطراف أى نزاع أو صراع لهم مصالح ووجهات نظر ترتبط بهذه المصالح، وبالتالى من المهم الوعى بها، وهو ما يعنى بالتالى تكثيف هذا الوعى، لا فقط بتأكيد الذات والمصالح الذاتية، وهو أمر وارد، بل ينطوى على تلقائية عفوية، ولكن تكثيف الوعى فى هذه الحالة هو بمعرفة وقبول الآخر، كما يُعبّر عنه هو أى هذا «الآخر» نفسه،
ورغم بدهية ووضوح هذه المقولة، فإنه اتضح من خلال المُداولات أن المشكلة هى أن هناك عادة طرفاً يُحاول أن يحتكر تعريف «الأنا» و «الآخر» أو «الآخرين» جميعاً ومصالحهم، بدلاً من أن يتركهم هم يُعبّرون عن أنفسهم وعن مصالحهم، وينطوى ذلك بدوره على «إنكار»، أو نفى، أو قهر هذا «الآخر» أو الآخرين».
وبالتالى، تكون بداية الإدارة السلمية للصراع هى الاعتراف «بالآخر»، والإقرار بحقه فى الوجود وبتعبيره هو عن نفسه وعن مصالحه،
وتساءل فريق من المشاركين: أليست هذه هى «الديمقراطية»- أى الإقرار بالخلاف والاختلاف، وإدارة هذا الخلاف، والاختلاف إدارة سلمية، من خلال الاحتكام إلى مرجعية أدبية، أو قانونية، أو دينية، أو سياسية، ترتضيها كل أو معظم أطراف النزاع أو الصراع؟،
وقد تساءل مُشاركون ألا يعنى الاحتكام إلى مرجعية سياسية، مثل الانتخابات أن تسحق «الأغلبية» «الأقلية» أو «الأقليات»؟ ومن هنا أقر معظم المُشاركين بأهمية أن تنص الوثائق الدستورية والقانونية، كمرجعيات، على احترام وحماية حق «الأغلبية» فى أن تسود، وكذلك على احترام وحماية حق الأقلية فى الاختلاف، وفى حماية هويتها ومصالحها، وفى حالة التعارض أو التناقض بين حق الأغلبية وحق الأقلية هو أن يكون الاحتكام للقضاء المستقل وطنياً أو إقليمياً (مثل المحكمة الأفريقية) أو دولياً (مثل المحكمة الجنائية الدولية)،
ويترادف مع الاحتكام إلى سُلطة قضائية مُستقلة أن يكون هناك إعلام مهنى مُستقل مفتوح، وكذلك نظام تعليمى عصرى يُشجع ويُنمى المهارات التحليلية والنقدية والحوارية، وهذه المقومات الثلاثة معاً هى ما يمكن أن نُطلق عليه «ثقافة الديمقراطية»،
وكأى «بذور» يمكن غرسها وتعميقها وتنميتها لا بد أن تبدأ ثقافة الديمقراطية من رياض الأطفال، وتستمر فى مراحل التعليم المتتالية، من خلال برلمانات الأطفال ثم الفتيان ثم الشباب، وجمعيات السجال والحوار، وكذا البرامج الحوارية فى وسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدنى.
وهنا أشاد عدد من المُقيمين العرب والأجانب فى الدولة المُضيفة (قطر) بما بدأته «المدينة التعليمية» من برامج لتنمية هذه الثقافة الديمقراطية- مثل «حوارات الدوحة» التى بدأت منذ عدة سنوات، على شاكلة سجالات نادى جامعة أكسفورد الشهيرة (Oxford Debating society) وهو نشاط شهرى، يتم فيه طرح موضوع للسجال يُجرى فيه عرض وجهتى نظر متعارضتين، فى حضور جمهور مُعظمه من الفتيان والشباب، يوجهون أسئلة للمتحاورين،
وفى نهاية السجال يُجرى التصويت بواسطة الجمهور الذى شهد المُساجلة، أى أن كل مُساجلة تنطوى بحد ذاتها على كل العناصر الرئيسية لثقافة الديمقراطية: معلومات أساسية حول موضوع خلافى، ثم عرض وجهتى نظر متعارضتين، وتساؤلات، ثم تصويت، ثم إعلان النتيجة.
إن ثقافة الخوف والشك والقهر هى المُقابل العكسى لثقافة الديمقراطية، ولذلك طُرح مبدأ الشفافية فى برامج عمل وتمويل مؤسسات المجتمع المدنى، فمثل هذه الشفافية هى الكفيلة بتقليص، إن لم يكن القضاء على ثقافة الخوف والشك،
وكانت دراسة حالات العراق، والجزائر، ولبنان، والسودان، واليمن، والصومال هى الأكثر جدلاً وإثارة، فهذه البُلدان الستة هى بُلدان ذات مجتمعات تعددية بالمعنى العرقى أو الطائفى أو المذهبى، وهو تعدد «إرثى»، أى يرثه أبناء كل مجتمع عن آبائهم وأجدادهم، وليس لهم دخل فيه، وهو يصبح جزءاً أصيلاً من هوية كل منهم كأفراد وكجماعات، ولا سبيل لمحو هذه «الهويّات»، ولكن يمكن إدارتها سلمياً أو قهرها عنفاً، وكان لقاء الدوحة هو لاستعراض نماذج إدارة التنوع الإرثى، وكيفية تغليب الإدارة السلمية للتنوع..
وهنا خلص المُشاركون فى منتدى المستقبل بالدوحة، إلى أن «الديمقراطية» هى صيغة الحكم الأفضل لإدارة التنوع سلمياً، وحتى لا يتفاقم وينفجر إلى صراعات مُسلحة، وكانت البُلدان الستة المذكورة قد شهدت بالفعل أطواراً مختلفة لإدارة تنوعها وتعدديتها، فمثلاً العراق الذى يتكون من عرب وأكراد وتركمان عرقياً، كما يضم مسلمين شيعة وسُنة وزيديين، ومسيحيين أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت، وصابئة، وداخل كل منها مذاهب وفرق فرعية،
وقد مرت العراق فى بداية نشأتها كدولة بمرحلة ملكية دستورية ديمقراطية (١٩٢٠-١٩٥٨)، ثم بمرحلة حكم حزب البعث العربى الاشتراكى (١٩٥٨-٢٠٠٣)، الذى سرعان ما تحول إلى حكم فردى استبدادى، هو حكم صدام حسين، وفى ظله نشبت صراعات مُسلحة مُمتدة، سواء كانت أهلية مع الأكراد فى الشمال أو مع الشيعة فى الجنوب، أو صراعات مُسلحة مع الجيران،
وهم إيران (١٩٨٠-١٩٨٨) والكويت (١٩٨٩-١٩٩١)، وكان ضحايا هذه الإدارة المستبدة للتنوع هو مليون نسمة، ورغم زوال حكم الحزب الواحد والفرد الواحد، مع الاحتلال الأمريكى للعراق (٢٠٠٣)، فإن ذيول الإدارة العنيفة للتنوع فى العراق ما زالت تطل برأسها بين الحين والآخر، وإن كانت العودة للديمقراطية تبشر بالعودة السلمية لإدارة التنوع الكثيف فى العراق.
ولم تختلف الحالات الخمس الأخرى كثيراً فى منطقها العام، وإن كانت بالطبع تختلف فى تفاصيلها، وفى كل الحالات لم تستقر الأمور فى تلك البُلدان نسبياً إلا بالاتفاق على تقاسم السُلطة والثروة بين الجماعات الرئيسية التى يتكون منها كل بلد، وما دام هذا «التقاسم» يخضع لمراجعات دورية، فإن ذلك يُُصبح هو «الديمقراطية» بعينها وبروحها، سواء سُميت بذلك أو بأى اسم آخر.